شبكة راية الإعلامية - 12/14/2025 12:49:20 PM - GMT (+2 )
الكاتب: د. دلال صائب عريقات
في عالم أصبحت فيه القوة الناعمة والدبلوماسية الرياضية إحدى أهم أدوات التأثير، لم يكن حضور المنتخب الفلسطيني في بطولة كأس العرب في الدوحة مجرد مشاركة رياضية، بل فعل دبلوماسي كامل الأركان، نجح في إعادة تقديم فلسطين للعالم لا بوصفها ضحية، بل كحالة صمود.
قدّمت قطر نموذجًا متقدمًا للدبلوماسية الرياضية من خلال تنظيم كأس العالم والان كاس العرب بصورة استثنائية صنعت سردية جديدة للمنطقة، وقد انعكس ذلك على مساحة الظهور التي مُنحت لفلسطين في المشهدين السياسي والشعبي، مؤكدة أن الرياضة قادرة على فتح النوافذ التي تغلقها السياسة. أعادت قطر تقديم ذاتها للعالم بصورة ثقافية، حضارية، وجاذبة. لكن في السياق الفلسطيني، جاءت التجربة مختلفة فالفدائي لم يخض مباراة كرة قدم فحسب، بل قدّم نموذجًا فريدًا للعلامة التجارية الوطنية الفلسطينية من خلال رواية انتصرت باختراقها القلوب والعقول.
دخل الفدائي الملعب ليس كفريق، بل كرواية شعب يقاوم ليحافظ على صورته ووجوده وهويته. وكان الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم جزءًا محوريًا في هذه الصورة، إذ نجح في بناء منظومة منضبطة رغم كل التحديات، مقدّمًا علامة تجارية وطنية ونموذجًا يُحتذى به في إدارة الرياضة الوطنية في أصعب الظروف. أمّا اللاعبون، فقد ارتقوا في أدائهم وسلوكهم إلى مستوى البطولة الأخلاقية قبل البطولة الرياضية، فثبتوا صورة فلسطين المشرّفة، وأثبتوا أن الكرامة هي ما يبقى للاعب بغض النظر عن نتيجة المباراة.
ولعلّ أكثر ما لامس قلوب الجماهير العربية والعالمية ذلك الحضور الإنساني الأخّاذ للمدرب إيهاب أبو جزر الذي اخترق القلوب بتواضعه وعزيمته، وقدّم رواية فلسطين ليس من بوابة الألم، بل من بوابة الصمود والإنسانية المشتركة. لحظة إهدائه الفوز لوالدته في غزة كانت لحظة فارقة؛ فقد عبّرت عن فلسطين التي تقدم نفسها بما يجمعها مع العالم من خلال قيم إنسانية صافية تشبه كل الأمهات وكل البيوت وكل القلوب التي تُحب بصدق. لقد انتصر المدرب لأنه اختار أن يكون إنسانًا أولًا، وانتصر الفريق لأنه قدّم الرواية الفلسطينية كقصة حياة لا كقصة معاناة وانتصر المنتخب الذي قدم فلسطين الموحدة لا المنقسمة.
وبينما كان العالم يتابع المباريات، كان الفلسطينيون في الخيام والمخيمات والبيوت والشوارع يتابعون شيئًا آخر أيضًا: تلك الروح التي بثّها المنتخب، روح شعب يستحق الحياة ويسعى للفرح ليس هروباً من الواقع بل قرار واعٍ بالاستمرار بالبقاء بالتحدي والصمود انطلاقا من روح الاحرار.
عظيم ما حققه المنتخب من أثر في صورة فلسطين عالميًا، وفي ثقة الفلسطينيين بأنفسهم داخليًا.
فالمنتصر الحقيقي، كما يعرفه جوزيف ناي، المفكر في حقل الدبلوماسية العامة، هو من تنتصر روايته- وهذا ما يفعله المنتخب الفلسطيني اليوم بقوة ووضوح. هذه ليست النهاية، بل بداية من الثبات حيث تحوّلت الملاعب إلى مساحة سيادية رمزية، تستعيد فيها فلسطين حضورها عبر الأداء المستقل بعيداً عن الإملاء، حقيقة وجودية على الأرض العربية بظهور منتخب فلسطيني بمستوى عالمي رغم شح الإمكانات ليضع فلسطين على خارطة العالم الكروي بمهنية واحتراف وبثبات.
من الدوحة عاصمة القوة الناعمة، تجلت الدبلوماسية العامة، في جوهرها، ليست كخطابًا موجّهًا للنخب فقط، بل حوارًا مفتوحًا مع الجماهير؛ جماهير الدولة الأم كما جماهير الدول المستضيفة. وفي هذا التداخل بين الداخل والخارج، تكمن عبقرية الدبلوماسية الرياضية: فهي تخاطب الوجدان قبل الموقف، والإنسان قبل السياسي.
من اتحاد كرة القدم الفلسطيني، إلى اللاعبين، إلى الجهاز الفني، تجلّت حالة نادرة من الانسجام بين الأداء والرسالة.
تداخلت المشاعر بطريقة كريمة ومسؤولة؛ أعاد اللاعبون رسم الرواية باسم الشعب الفلسطيني، كرواية أبطال- يحملون كرامتهم بثقة،
ويعبّرون عن وطنهم بلغة الانضباط والاحترام والأخلاق الرياضية التي ملأت المكان.
الرياضة ليست ترفًا ولا هامشًا، بل إحدى أكثر أدوات القوة الناعمة فاعلية. وقد نجح الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بقيادة جبريل الرجوب في توظيفها بأجمل صورها، مقدّمًا نموذجًا راقيًا للدبلوماسية العامة، فرضت تعريف البطولة للذات الفلسطينية.
دبلوماسياً، ورغم التناقض اللغوي في مفهوم مصطلح "الفدائي والدبلوماسي" من حيث الأدوات، إلا أن الهدف واحد بخدمة القضية حتى التحرر والكرامة والاستقلال، الفدائي له من اسمه نصيب. شكراً للفدائي، للاعبين والمدرب، شكراً للاتحاد ولكل الأحرار!
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
إقرأ المزيد


